تعلّم متى «تحذف» 🗑️

أهم قاعدة تحكم جودة الكلام عمومًا، والكتابة خصوصًا، وما نسميه اليوم (محتوى).

في عام 2008 -أيام مراهقتنا نحن جيل التسعينات- اقتنى أحد أصدقائي المقرّبين أسورةً حديدية معتقدًا أنّها تكبح شهيّته للطعام وتنقص وزنه من خلال ذبذبات طاقيّة ترسلها. حاولت آنذاك أن أثبت له مدى حماقة الفكرة وانعدام منطقيّتها لكنه لم يستمع. في آخر لقاء بيننا ذكّرته بتلك الأسورة فأطلق ضحكةً طويلة أنهاها بتنهيدة و«ايييه أيام». يعتقد صديقي أنّه كان أحمقًا، وأعتقد أنّ الكثير من الأفكار التي يؤمن بصحّتها الآن لا تختلف كثيرًا عن تلك الفكرة. صباح الخير.


ما الذي يميّز كلام الحكماء والفلاسفة عن غيرهم؟ وما السحر الذي يجعلنا نصمّم مقولات الفلاسفة والحكماء وننشرها كأنها قانون أو فقرة من دستور الحياة؟

ماذا عن خطابات الملوك وبيانات اللحظة الحاسمة التي نسمعها من قادة الدول؟

لماذا نجد جرسًا موسيقيًا آسرًا فيما يقال؟ ورغم نبرة الدبلوماسية التي قد لا تعجبنا، إلا أنّنا نسمع نصوصًا متماسكة قوية مركّزة. لا استطرادات تضيّعنا ولا حشو يصيبنا بالملل.

السر في اثنتين، وأراهما واحدة. ✌️

الأولى: قوّة المعنى، أن تصيب بدقّةٍ بالغة، وسهولةٍ ممتنعَة، مرمًى بعيدًا عن غيرك. وسيفيدك هنا سؤال «هل فعلًا» الذي ناقشناه في عددٍ سابق.

والثانية: لا تأتي دون الأولى، وهي تطبيق أهم قاعدة تحكم جودة الكلام عمومًا، والكتابة خصوصًا، وما نسميه اليوم (محتوى) تحديدًا. وهي: «ما يُمكن حذفه يَجب حذفه».

لا أتذكّر متى وأين وممّن تعلّمتُ هذه القاعدة، ولا أدري إن كنت أعدت صياغتها بطريقتي أو سمعتها ونقلتها كما هي، لكنّ عجبي وإعجابي بها لا ينتهي، فنصُّها نموذج ناجح لتطبيق القاعدة نفسها. 

تأمّل معي. بإمكان كاتب ثرثار أن يقول:

كلما اختزلتَ كلماتك كان أفضل لكتابتك، فلو استطعت أن توصل فكرتك في جملة مكوّنة من عشر كلمات، ثم وجدت أنّ بإمكانك إيصال نفس الفكرة في خمس كلمات دون إخلال بالمعنى، عليك حذف الكلمات الزائدة والاكتفاء بما يوصل نفس المعنى بأقلّ عدد ممكن من الكلمات. وبهذا سيصبح نصّك أقوى.

وبإمكان كاتبٍ عادي أن يقول:

حتى تطوّر نصّك عليك أن تحذف منه كل ما تستطيع من كلمات دون أن تخلّ بمعناه.

وعيب هذه النصوص -رغم نجاحها في إيصال الفكرة بوضوح- أنها أسهبت فيما لا فائدة من الإسهاب فيه. وميزة تلك القاعدة أنّك لن تستطيع أن تحذف منها كلمةً واحدة دون أن تخلّ بمعناها. [ما يُمكن حذفُه يجبُ حذفُه]. حتى لو قلت [احذف كلّ ما يمكنك حذفه] ستدور في فلك الخمس كلمات، ولن تستطيع اختزالها بأقلّ من ذلك إلا لو بخستَ شيئًا من معناها.

إذن ودون إسهاب بلا فائدة: سواءً كنتَ بصدد كتابة مقالة أو قصيدة، أو خطابًا أو نشرة، أو إعلانًا أو تغريدة أو تعليق… صوّب معانيك بدقّة، وطبّق قاعدة الحذف، واستمتع بالسّحر الذي يصيب من حولك بما تكتُب. واقترب معي خطوةً من كلام الحكماء والفلاسفة.


«الكمال لا يتحقق عندما لا يوجد ما نضيفه، بل عندما لا يوجد ما نحذفه.»

أنطوان دو سانت إكزوبيري


تساءلت الأسوع الماضي، لماذا يخاف الإنسان من مخالفة التوقعات؟ فأجبتم:

  • لأنه يظن أن الأمان في السير مع القطيع! — خديجة محمد.

  • خشية الوقوع في مصائد النقد والرفض — ابتسام اللهواني.

  • خشيةً من جهل ماهيته أو من مواجهة فراغه الداخلي — جود العمري.

  • لأنه سيَنظر ويُنظر إليه لأوّل مرة  — غالية فهد.

سؤالي لك هذا الأسبوع: أول حاسة يكتسبها الإنسان «اللمس»، وآخر حاسة يفقدها «السمع»، لماذا؟🔗


أعجبتك النشرة؟ ودّك تستمرّ؟ أرسلها إلى ثلاثين شخص وتابع قناة الواتساب ليصلك الجديد.

مهارة الحذف
نشرة قوارش
نشرة قوارش
كلّ سبت

نشرة بريدية أسبوعية تفكّك ألغاز المحتوى لمَن يخوضون معارك سوداء مع الصفحة البيضاء! 🖋️