رسالة من كاتب محتوى عام 2100 إلى الزمن الجميل

كاتب محتوى من مطلع القرن الثاني والعشرين، يخبرك عن تسعة أسباب أدّت إلى انقراض مهنته.

أهلًا، أنا كاتب محتوى من مطلع القرن الثاني والعشرين. وصلت إليك عبر تقنية لا تعرفها، وأتواصل معك الآن من باب التسلية في أوقات فراغي الكثيرة. أكتب هذه الرسالة في محاولة للتفكير خارج «الشبكة». فنحن نعيش في زمن سيطرت فيه الآلات على معظم وظائف الكوكب، ومُحيَت فيه الأمّية الاندماجية. فلا تكاد تجد شخصًا تحت عمر الستّين يعيش دون شريحة تحتلّ جزءًا من دماغه. لكن صباح الخير.


جدّي الرابع كان ممّن يكسبون لقمة العيش من كتابة المقالات في مواقع الإنترنت، والمنشورات التي نحسّ بها في شبكات التخاطر الاجتماعي، والإعلانات التي تصل الآن إلى أدمغتنا عبر البث الذهني. مقابل حفنة من المبالغ النقدية في عصر ما قبل اعتماد العملات الجينية.

ظهرت مهنة «كاتب محتوى» لأول مرة في بدايات القرن الحادي والعشرين، وأصبحت مهددة بالانقراض في الخمسينات. إلى أن اختفت تمامًا قبل نحو عقدين. وهنا أشاركك تسعة أسباب لانقراضها:

الذكاء الاصطناعي أعاد تدوير نفسه

في بدايته، أبهر الذكاء الاصطناعي الجميع لأنه كان يكتب مثل البشر. يقلّد أخطاءهم، يسرق صدقهم، ويعيد ترتيب الجمل المكتوبة بحبر الوجع أو الفرح. لكن بعد عقود من الاستخدام الجماعي، صار يتغذّى على محتوى مكتوب به، ويحاكي صياغاته. فظلّ يكرّر نفسه… بدقّة وملل. إلى أن أصبح المحتوى ناعمًا، نظيفًا، بلا طعم.

الاعتماد الكامل على العصف الاصطناعي

في أغلب جلسات تطوير الحملات اليوم، يطالب الجميع بأفكار بشرية! لكن الجميع أيضًا يفتح ملف عصف اصطناعي، يضيف إليه كلمات مفتاحية، ويختار المزاج العام للحملة وأهدافها… فتُصاغ تلقائيًا. في هذا المشهد، لم يعد لكاتب المحتوى كرسي على الطاولة. ولا حتى طاولة.

زر المعرفة الفورية

لم نعد نقرأ المقالات كما كنتم تفعلون. أقنعني، لماذا أقضي الدقائق أمام 500 كلمة، بينما يمكنني تحميل ما يهمني منها مباشرة إلى عقلي في ثوانٍ؟ لسنا بحاجة إلى مقدّمات جذابة، ولا قصص افتتاحية، ولا جمل تنتهي بنقطة. المعرفة الآن تُزرع ولا تُقرأ.

البرمجة النفسية الجماعية

مع بداية هيمنة الوعي الاصطناعي (AC)، تغيّر كل شيء. لم نعد بحاجة لمن يُقنعنا أو يعرض علينا اختيارات، فالرغبات تُبرمج، والقرارات تُبثّ. لا مكان لكاتب يصوغ عبارة مؤثّرة. مهنته باتت كمن يقترح نكهات آيسكريم في زمن لم تعد فيه الحواس تعمل أصلًا. والذوق تحوّل إلى قرارٍ شبكيّ يُتّخذ وفقًا لسلوكك السابق وسلوك الملايين مثلك.

التحوّل إلى المحتوى الشعوري

لم نعد نُشاهد كما كنتم تفعلون، بل نعيش. لماذا أحضر عرضًا كوميديًا أو فيلمًا وثائقيًا، إذا كان بمقدوري استقبال تجربة شعورية كاملة، مصمّمة بدقّة على يد نماذج الـ(AC)، وتُزرع في داخلي كما لو أنني كنت هناك فعلًا؟

الضحك، الدهشة، الفرح، التوتر… كلها تُبثّ الآن مباشرة، بلا شاشة، ولا جمهور، ولا اختلاط بروائح البشر.

سقوط الحكاية أمام المحاكاة

في استطلاع شمل أكثر من 12 مليون فرد من جيل دلتا، قال 82٪ إنهم يفضّلون خوض تجارب محاكاة—كالعيش في القرن السابع عشر أو في مدن منقرضة—على متابعة القصص المصوّرة أو الأفلام.

لم تعد القصة تثير الحواس، بل الإحساس الكامل بها من الداخل. 

تحوّل البشر إلى وسائط

اليوم، لم نعد نعبّر عمّا نشعر به… بل نختار ما نبثّه مباشرة إلى عقول الآخرين عبر سحابة فكرية، وكل انفعال أو فكرة أو إحساس ينتقل فورًا إلى الآخرين دون حاجة لكلمة واحدة. لم تعد اللغة وسيطًا ضروريًا، بل مرحلة زائدة تجاوزناها في عصر الوعي الاصطناعي.

شيوع «اكتئاب فرط الإدراك»

أحد أكثر اضطرابات عصرنا شيوعًا هو اكتئاب فرط الإدراك؛ حالة ظهرت مع تضخّم المعرفة اللحظية. ويُقدّر أنّ ما يستقبله الفرد اليوم من أخبار الأوبئة والحروب، والتحديثات والتوصيات، يفوق مئات أضعاف ما وصل إليه إنسان القرن الحادي والعشرين. ومن هنا ظهرت حركة تطالب بفرض «الصيام المعرفي» والتوقف عن متابعة النشرات والمنصات ومن يكتب فيها.

حتى الفن لم ينجُ

لم يقتصر الانقراض على كتّاب المحتوى. هل تتوقّع أن يبقى المغنّي، والملحّن، والشاعر، في زمن أستطيع فيه تصميم أغنيتي كاملة—كلمةً، لحنًا، توزيعًا، وإحساسًا—بضغطة ذهنية واحدة؟ لم نعد ننتظر فنان العرب القادم ولا كوكب الشرق… نحن نصنعهم حسب مزاجنا، ونُسكتهم متى شئنا.

يبدو أنني سأكتفي بما كتبته وأغلق الآن، فقد بدأت مراوح التبريد تصدر ذلك الصوت الغريب مجددًا. 😊


الكتابة هي مجرد عملية تفكير على الورق. من خلالها يتضح إذا ما كنت تفهم الموضوع بشكل كافٍ أو لا. معاناتك في الكتابة تعني عدم فهمك الكامل للموضوع.

ويليام زينسر


كأنّ إجاباتكم على سؤال «لماذا نكتب» إثبات أنّ مهنة الكتابة لن تنقرض :)

قضيت وقتًا طويلًا في قراءة الردود والاستمتاع بها، والتردد والخجل لأنّي مضطرّ إلى اختصار بعضها وعدم نشرها بعضها الآخر، ولعلي أفكر في وسيلة أخرى لنشر جميع الإجابات حتى لو كان كتابًا يُقرأ عام 2100!

سؤال الأسبوع الماضي كان فلسفيًا جوهريًا: لماذا نكتب؟ واخترت -مُكرهًا- بعض الإجابات الرائعة:

  • حتى لا نُخنَق من فرط التفكير — جود العمري

  • لنفرغ الضجيج من عقولنا — فاطمة أيمن

  • لأن في الكتابة ما ليس في أي هواية أو وظيفة، كونها أساس كل عمل إبداعي فني والخطوة الأولى دائما في كل شيء — ساهر القرني

  • يدغدغ قلبي كلما قرأت نصاً ذكياً ممتعاً وأطمح أن تمنحني نصوصي هذا الشعور — تقى البوش

  • نكتب لأن الناس لا يُصغون كما ينبغي! — كوثر العوادي

  • سأجيب من قصة من ست كلمات: خانه صوته وذاكرته والعالم، وأنقذته كلماته. — وعد البراهيم

  • الكتابة نوعان. نوعٌ لنا وحدنا لا يراه أحد، وآخر هو لنا كذلك ولكن من خلال عرضه على كل أحد. ففي الأول، نكتب لأننا بحاجة إلى الكتابة. نحن بحاجة إلى ذلك اللجوء بالذات إلى الذات، والنأي بها إليها، ليزداد فهمنا لأنفسنا وتتعمق وتترسخ مشاعرنا ومعتقداتنا. أحيانًا نشرع في الكتابة عن أشياء لا نفهمها ونمسي بعد أن نفرغ من العارفين. أحيانًا نكتب بشك، وننتهي بيقين. وفي النوع الثاني، نكتب لأننا نريد أن نُرَى، وأن يُصادِقَ الآخرون على أفكارنا لكيلا نشعر بالوحدة، ولأن نشعر بأن هناك من يشبهنا ويفكّر مثلنا، فنصبح بهم أقوى. — طلب عدم ذكر اسمه للأسف.

وسؤالي لك اليوم: 

لماذا نستغني عن بعض الماء حين نبكي؟ 💧

شارك جوابك هنا


أفادتك النشرة؟ ودّك تستمرّ؟ أرسلها إلى ثلاثة أشخاص قد تفيدهم وشكرًا. 💙

الكتابةالذكاء الاصطناعي
نشرة قوارش
نشرة قوارش
كلّ سبت

نشرة بريدية أسبوعية تفكّك ألغاز المحتوى لمَن يخوضون معارك سوداء مع الصفحة البيضاء! لن أعطيك نصائح سطحية ولا حِكم مكررة، بل أفكارًا حادّة تساعدك في شحذ قلمك وسنّ أفكارك. 🖋️