مذكرات قارئ تائب 💔📚

وظيفة هذا العدد إقناعك أنّ أكل عنبة واحدة قد يكون أهمّ من قراءة كتاب من الجلدة إلى الجلدة.

سلامٌ عليك يا إنسان 👋

في مناسبةٍ اجتماعية، احتفظت برقم والد صديقي (ستّينيّ أحيل إلى التقاعد قبل سنوات) ومن ذلك الوقت وحالاته في الواتساب هي ملاذي الوحيد من فرط التفكير ومحاولات منطَقة وعَقلَنة الأحداث في كوكبنا. كلما تعقّدت الأمور هرعت لحالاته وعرفت أن هذا المستقبل الجميل ينتظرني. راحة بال وسعة صدر ومقاطع سخيفة لأطفال وقطط، وتصبيحات صوتُ صفيرِ البُلبُل، ورسائل عتاب أدقّ بها خلق الله. وصباح الخير.

أحد آرائي التي تسهّل هجوم أصدقائي المثقّفين عليّ هي فصلي التامّ بين القراءة والكتابة، ورفضي اعتبار الأولى سببًا والأخرى نتيجة. وقناعتي أنّ أكل عنبة واحدة قد يكون أهمّ من قراءة كتابٍ من الجلدة إلى الجلدة، وقبل أن تنضمّ لقائمة المهاجمين، اقرأ هذه النشرة في ثلاث دقائق. ⏳

هل الكاتب الجيد قارئ للكتب بالضرورة؟

هل القراءة فضيلة لذاتها أو لأنها وسيلة -محتملة- للمعرفة؟ 

هل يصبح القارئ مع الوقت كاتبا وكأنّه تطوّرٌ طبيعي؟

هل يتحوّل عاشق البيانو إلى عازف إذا أدمن الاستماع لأشهر المعزوفات؟

كم مرةً قرأت لكاتبٍ يتّضح من صفحات كتابه الأولى أنه قرأ الكثير حتى أصبح يفيض بتكرار مقروءاته؟

سأتفق معك وأحبك.. لو قلت لي أنّك تقرأ بحثًا عن المعرفة أو المتعة أو حتى لقتل أوقات الفراغ. لكن إياك أن تمارس القراءة بهدف الكتابة! هذا مجرد وهم يردّده الكتّاب المقلِّدون والمقلَّدون، ومدرّبو التنمية البشرية ومن في حكمهم. وحتى أثبت لك -كما جرت العادة- أنّ القراءة ليست عتادًا لازمًا للكتابة، اقرأ معي هذه القصة:

قبل أيام وفي طريقي إلى النادي اكتشفت أنني نسيت سمّاعتي. كنت أمام خيارين، إما العودة إلى البيت لأخذها، أو ترك جوّالي في السيارة والدخول إلى النادي بصفتي إنسانًا يعيش في نهايات الألفية الثانية ولم يتعلّق بواقعٍ بديل اسمه الإنترنت.

بدأت بجهاز السير، وبعد مرور ربع ساعة، اكتشفت أن الوقت الذي مر هو ثلاث دقائق!

بعد ربع ساعة -فعليّة- شعرت بضيق في قدمي اليسرى بسبب أن الحبل مشدود عليها أكثر من اليمنى، أرتدي الحذاء منذ أشهر من دون أن أفكّ الحبل (حتى في الغسيل) لكن للتو شعرت بهذا الخلل!

انتقلتُ لصالة الحديد، ولاحظت أثر اختفاء ساعة الحائط، كنت أظنها أُخذت إلى الصيانة أو الاستبدال، وللتوّ اتضح لي أنّهم أزالوا جميع ساعات النادي عمدًا. زاد فقدان شعوري بالوقت! وزادت قدرتي على استشعار اللحظة الراهنة.

اكتشفت أن لحظات الراحة بين الجلسات دون سماع محتوى، أو الانشغال بالجوال تصبح مضاعفة الأثر! وأنّ الراحة الذهنية مطلوبة مثل الجسدية، وأنني حين أسمع بودكاست أو غيره وأُشغل عقلي في دقائق الراحة، ينخفض تركيزي وأدائي في الجولة التالية!

جلست أراقب أداء الجميع في رياضةٍ تهدم فيها بعض جسدك ليصبح أقوى! وتُنافس فيها نسخة منك تسبقك بأسبوع أو أقل. هل حملتَ وزنًا أثقل من المرة الماضية؟ هل ستقوى على حمل وزنٍ أثقل منه في المرة القادمة؟ أجمل ما يحدث هنا أن الجميع منشغلٌ بالمستوى الذي وصل إليه هو دون غيره! الجميع يتعامى عمّا عند غيره.. وربّما هذا هو السبب الوحيد لاستمراريتهم!

تأملت في وجوه مَن حولي ولاحظت أن النادي يخلو من أقراني الثلاثينيين! فهم إما عشرينيّون وفي سنّ الجامعة ممّن يهمهم تحسين مظهرهم، أو ستّينيّون متقاعدون. وكأنّنا في مكان يجمع آباءً مع أبنائهم! تفكّرت في أسباب اختفاء الثلاثينيين، هل هم منشغلون بالتطور الوظيفي واللهث وراء مزيدٍ من المال؟ هل غيّبهم النوم بعد سهر؟ أو توصيل أطفالهم إلى المدارس في هذا التوقيت؟ وهل الإجابة مهمة أصلًا؟!

في آخر دقائق التمرين ازدادت أسئلتي عمقًا، لماذا أتمرّن في النادي نفسه وفي الفرع نفسه منذ ستّ سنوات متقطّعة، ومعظم الوجوه التي ترتاده مألوفة بالنسبة لي، لكنّي لم أستطع حتى الآن تكوين صداقة واحدة -أو معرفة- من هذه البيئة ذات الاهتمام المشترك؟ وكيف يكون هذا ممكنًا، إذا كنت أرتدي سماعة رأس من لحظة خروجي من باب سيارتي حتى عودتي إليها؟!

اخترت أن أنهي التمرين وأوقف سيل الأفكار عند هذا الحد، وأعود لأسجل ملاحظةً صوتيةً أسرد فيها تأمّلاتي هذه قبل أن تنسحب من ذاكرتي.

ستصل إلى نهاية القصة وتتساءل ما علاقة هذا كله بالقراءة والكتابة؟

سأجيبك أنّ كل ما حدث معي ما هو إلا قراءة أوصلتني إلى هذه الكتابة. أن تقرأ الوجوه والمواقف، والنبرات والنظرات، ومتغيّرات الحياة كل يوم مِن حولك… وهذا لن يحدث إن لم تكن مريضًا بالتفكّر والتأمل في دقائق الأمور الغائبة عن غيرك أو المملة بالنسبة لهم، أو أن تنسى سمّاعتك!

 أما عن تمرين اليوم، فهو صعب ولن ينجح فيه كثيرون، ولا أدري أين ومتى قرأته لكنه عالقٌ في ذهني منذ سنوات. حاول أن تأكل عنبة واحدة فقط في عشر دقائق كاملة (600 ثانية) تعيش فيها كلّ لحظة وتصِف كلّ شعور تشعر به وتتفكّر في كل مرحلة كيف تحدث ولماذا تحدث وماذا تشبه… وتكتب وصفك لهذا الشعور واستنتاجاتك الخاصة. ربّما هذه هي القراءة، وهذه هي الكتابة!

بقي أن أصارحك أن هذا المستوى من التفكّر يُوهَب للبعض، ويُكتسب لدى البعض الآخر، لكنه يتحول مع كثرة الممارسة إلى تفكيرٍ مفرط يمتد إلى نواحي حياتك كلها، ليفسد بعضها، وتضطر بعدها أن تطلب منّي رقم والد صديقي!

ما يُكتب بلا جهد، يُقرأ بلا متعة.

صامويل جونسون

استمتعت بجميع الإجابات على سؤال العدد الماضي (ما وجه الشبه بين الكتابة والكآبة؟) ، واخترت منها:

  1. كلاهما يتطلب العزلة — روان العتيبي

  2. كلاهما يوجعك في غرفة مغلقة — ليلى عاطف

  3. مرضٌ وعَرَض — ناصر بامشموس

وسؤالي لك اليوم ‏ما وجه الشبه بين الوقت والقوت والقوة؟

منصة ميديم مفيدة للمهتمين بكتابة المحتوى ومواكبة الأحداث، تلخص لك المحتوى الرائج في كل مجال.


هذا والله أعلم.

أعجبتك النشرة؟ ودّك تستمرّ؟ أرسلها إلى ثلاثة أشخاص قد تفيدهم وشكرًا. 💙

النشرة في الموقع 🔗

القراءةالكتابةالتأملالتفكر
نشرة قوارش
نشرة قوارش
كلّ سبت

نشرة بريدية أسبوعية تفكّك ألغاز الكتابة لمَن يخوضون معارك سوداء مع الصفحة البيضاء! لن أعطيك نصائح سطحية ولا حِكم مكررة، بل أفكارًا حادّة، وأدوات مجرَّبة، تساعدك في شحذ قلمك وسنّ أفكارك. 🖋️